في هذا الحديث ذِكر الاكتواء ، وأنهم لا يكتوون ، والاكتواء أو الكي نوع من الطب ، وسبب الشفاء به غير ظاهر ؛ لذلك جَعْله سببًا وتعلق القلوب به ، هذا تعلُّق بالسبب الذي ليس بظاهر في تحصيل المراد ؛ ولهذا يقول النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – : « الشِّفَاءُ فِي ثَلاَثَةٍ : شَرْبَةِ عَسَلٍ ، وَشَرْطَةِ مِحْجَمٍ ، وَكَيَّةِ نَارٍ ، وَأَنْهَى أُمَّتِي عَنِ الكَيِّ » .
فالكي كما هو معلوم ليس بسبب ظاهر للمداواة ، ليس بسبب ظاهر للشفاء ؛ لذلك من تعلَّق قلبه به ظن أن هذا الكي ينفع ، وأنه سبب يحصل به المراد وهذا يحدث كثيرًا عند من يجربون الكي فإنه يقول الكي مباشرة هذا يحدث معه المقصود ، يحدث معه الشفاء ، وهذا مما يجب أو مما يستحب أن تنقطع القلوب عنه .
ولهذا هؤلاء الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب انقطعت قلوبهم عن التعلق بما لم يكن سببًا ظاهرًا لهم ، لهذا ذكر أنهم انقطعت قلوبهم عن التعلق بغير الله ، فالكي ليس بسبب ظاهر ، كذلك طلب الرقية ليس بمحمود ؛ لأن فيه انصرافًا عن الله – جل وعلا – ، تُرقِي نفسك هذا هو الأكمل ، لكن إن اخترت أن تطلب الرقية أو تذهب لأحد فلا حرج لكن ليست هذه هي المرتبة المثلى .
ففعل الأسباب ، الأسباب الظاهرة التي يحصل بها المقصود من الأدوية أمر بها النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – في قوله : « إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ ، وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً فَتَدَاوَوْا وَلَا تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ » والنبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – داوى وتداوى .
فوجب إذًا التوفيق بين هذا الحديث وبين الأحاديث التي فيها الأمر بالتداوي والحث على التداوي والجمع بينهما على النحو الذي ذكرته لك ، كما نبه على ذلك بعض أهل العلم ، على أنه من السلف من أمضى ذلك في جميع الأدوية ، واختار ألا يتداوى أبدًا واختاروا أن يتوكلوا على الله – جل وعلا – ؛ لأنهم يتوكلون على الله – جل وعلا – في شفاء المرض دون اتخاذ بالأسباب ؛ لأن الله – جل وعلا – قال مخبرًا عن إبراهيم عليه السلام ﴿ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴾ [ الشعراء : 80 ] فأخذوا بهذا أخذًا عامًا وقالوا : إن كل مرض يصيب الإنسان فالله – جل وعلا – هو الشافي منه ، وتركوا الأسباب في الأمراض تعلقًا بالله – جل وعلا – وحده .
لكن هذا ليس هو الصحيح من الأقوال في هذه المسألة بل الصحيح أن تأتي السبب مع التوكل على الله – جل وعلا – ، إذا كان السبب نافعًا ظاهرًا ؛ لذلك الكيَّات كثير منها لا ينفع ، لكن منها ما ينفع لأشياء مخصوصة . أما الأدوية التي يستعملها الناس فهي في الغالب عند من يعرفها سبب ينتج عنه المسبب الذي هو الشفاء بإذن الله – جل وعلا – .
فالواجب على أهل الإيمان أن يتعاطوا الأسباب ، ويتوكلوا على الله – جل وعلا – ، ويعلموا أن هذا السبب لا يحدث معه المقصود ، فليس معنى أن تداوى وتشرب الدواء أو تأخذ الدواء أنك ستشفى ، لا يقتضي ذلك ، لكن هذا سبب يحتاج الانتفاع به إلى أسباب أخرى منها أن يكون جسمك قابلاً لهذا ، وهذا بيد الله – جل وعلا – ، ومنها ألا يكون في جسمك شيء يحرق هذا الدواء فلا ينتفع به . فأناس جلسوا يشربون أدوية مدة طويلة ولم ينتفعوا بها ؛ لأن أجسامهم غير قابلة لهذا ؛ ولأن هناك مدافعات لهذا الدواء .
فالذي يجعل هذا الدواء نافعًا هو الله – جل وعلا – ، فإذا أنت في تداويك تعلقت بالله – جل وعلا – ، وهذا سبب من الأسباب مثلما أوضحت لك في مثال السفر بالسيارة تفعل السبب والباقي على الله – جل وعلا – ، فعندها لا يتعلق قلب الموحد بالسبب وإنما يفعل السبب لأنه مأمور به رجاء من الله – جل وعلا – واستعانة بالله أن يحدث مع هذا السبب أسباب أخرى من عنده – جل وعلا – بها يتم الشفاء وينتفع المريض هذا هو التوفيق بين هذه الأحاديث في هذا المقام وتبيين المختلفات في هذا .